فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (83- 84):

{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}
قلت: {تلك}: مبتدأ، و{نجعلها}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: {تلك الدارُ الآخرة} أي: تلك الدار التي سمعْت بذكرها، وبلغت خبرها. وعنى البُعد في الإشارة، لبُعد منزلتها وعلو قدرها، {نجعلها للذين لا يُريدون علواً في الأرض} أي: تكبراً وقهراً كحال فرعون، {ولا فساداً}؛ عملاً بالمعاصي، أو ظلماً على الناس، كحال قارون، أو قتل النفس، أو: دعاء إلى عبادة غير الله، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلب إليهما، أدرك ذلك بالفعل أم لا. وعن علي رضي الله عنه: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحيه، فيدخل تحتها. وعن الفضيل: أن قرأها، ثم قال: ذهبت الأماني ها هنا وعن عمر عبد العزيز رضي الله عنه أنه كان يرددها حتى قُبض. {والعاقبة} المحمودة {للمتقين} ما لا يرضاه الله؛ من العلو والفساد وغير ذلك.
{ومن جاء بالحسنة فله خيرٌ منها} ذاتاً وقدراً ووصفاً، {ومن جاء السيئة}؛ مالا يرضاه الله تعالى، {فلا يجزى الذين عملوا السيئات}، أصله: فلا يجزون، وضع الظاهر موضع المضمر؛ لِمَا في إسناد السيئات إليهم من تقبيح رأيهم وتسفية أحلامهم، وزيادة تبغيض السيئات إلى قلوب السامعين، {إلا ما كانوا يعملون}؛ إلا جزاء عملهم فقط، ومن فضله العظيم ألا يجزي السيئة إلا مثلها، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة.
الإشارة: جعل الله الدار الآخرة للمتواضعين، أهل الذل والإنكسار، والعاقبة المحمودة- وهي الوصول إلى الحضرة- للمتقين الشهرة والاستكبار، وفي الحكم: (ادفن نفسك في أرض الخمول؛ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدفنْ؛ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُهُ). قال في التنبيه: لا شيء أضر على المريد من الشهرة وانتشار الصيت؛ لأن ذلك من أعظم حظوظه، التي هي مأمور بتركها، ومجاهدة النفس فيها، وقد تسمح نفس المريد بترك ما سوى هذا من الحظوظ. اهـ.
وكان شيخ شيخنا يقول: نحب المريد أن يكون قدمه أعظم من صيته، ولا يكون صيته أعظم من قدمه. اهـ. وقال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال بعضهم: طريقتنا هذه لا تصلح إلا بأقوام كنست بأرواحهم المزابل. وقال أيوب رضي الله عنه: ما صدق عبد إلا سَرَّهُ ألا يشعر بمكانه. وقال في القوت: ومتى ذل العبد نفسه، واتضع عندها، فلم يجد لذلته طعماً، ولا لضعته حسماً، فقد صار الذل والتواضع كونَه، فهذا لا يكره الذم من الخلق؛ لوجود النقص في نفسه، ولا يحب المدح منهم؛ لفقد القدر والمنزلة في نفسه. فصارت الذلة والضعة صفة لا تفارقه، لازمة لزوم الزبالة للزبال، والكساحة للكساح، هما صنعتان له كسائر الصنائع. وربما فخروا بهما لعدم النظر إلى نقصهما.
فهذه ولاية عظيمة له من ربه، قد ولاّه على نفسه، وملّكه عليها، فقهرها بعزه، وهذا مقام محبوب، وبعده المكاشفات بسرائر الغيوب. ثم قال: ومن كان حاله مع الله تعالى الذل طلبه واستحلاه، كما يطلب المتكبر العز، ويستحليه إذا وجده، فإن فارق ذلك الذل ساعة تغير قلبه لفراق حاله، كما أن المتعزز إن فارق العز ساعة تكدر عليه عيشه؛ لأن ذلك عيش نفسه. اهـ.
قلت: وهذا مقام من المقامات، والعارف الكالم لا يتغير قلبه على فقد شيء؛ إذ لم يفقد شيئاً بعد أن وجد الله، (مَاذَا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ). والذي ذكره في القوت هو حال السائرين الصادقين. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (85- 88):

{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}
قلت: {ولا يصدنك}: مجزوم بحذف النون، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، حين دخلت نون التوكيد.
يقول الحق جل جلاله: لرسوله صلى الله عليه وسلم {إن الذي فَرَضَ عليك القرآن} أي: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، والعمل بما فيه، {لرادُّك إلى معاد} عظيم، وهو المعاد الجسماني؛ لتقوم المقام المحمود، الذي لا يقوم فيه أحد غيرك، مع حضور الأكابر من الرسل وغيرهم. أو: لرادك إلى معادك الأول، وهو مكة، وكان عليه الصلاة والسلام اشتاق إليها؛ لأنها مولده ومولد آبائه، وقد ردّه إليها يوم الفتح، وإنما نكَّره؛ لأنه كان في ذلك اليوم معاد له شأن، ومرجع له اعتداد؛ لغلبته- عليه الصلاة والسلام- ونصره، وقهره لأعدائه، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.
والسورة مكية، لكن هذه الآية نزلت بالجُحْفَةِ، لا بمكة ولا بالمدينة، وفي الآية وعد بالنصر، وأن العاقبة الحسنة والخير الجسيم للنبي صلى الله عليه وسلم لا يختص بالآخرة، بل يكون في الدنيا له ولمتَّبِعيهِ، ولكن بعد الابتلاء والامتحان، كما في صدر السورة الآتية بعدها، وبهذا يقع التناسب بينهما، فإنها كالتعليل لِمَا قبلها.
ولما وعده بالنصر قال له: قل ربي أعلم من جاء بالهُدى أي: يعلم مَنْ جاء بالحق، يعني نَفْسَهْ صلى الله عليه وسلم مع ما يستحقه من النصر والثواب، في معاده، {ومن هو في ضلال مبين}؛ وهم المشركون، مع ما يستحقونه من العقاب في معادهم.
{وما كنتَ ترجو أن يُلقى}؛ يوحي {إليك الكتابُ} أي: القرآن، فكما ألقى إليك الكتاب، وما كنت ترجوه؛ كذلك يردك إلى معادك الأول، من غير أن تَرْجُوَهُ، {إلا من رحمةً من ربك}، لكن ألقاه إليك، رحمة منه إليك، ويجوز أن يكون استثناء محمولاً على المعنى كأنه قال: وما أُلْقِيَ إليك الكتاب إلا رحمة من ربك {فلا تكونن ظهيراً}؛ معيناً {للكافرين} على دينهم؛ بمُداراتهم والتحمل عنهم، والإجابة إلى طلبتهم.
{ولا يَصُدُّنَّك عن آيات الله} أي: لا يمنعك هؤلاء عن العمل بآيات الله وتبليغها وإظهارها، {بعد إذ أُنزلت إليك} أي: بعد وقت إنزالها، و{إذ}: مضاف إليه أسماء الزمان، كقولك: حينئذٍ ويَومَئذٍ. {وادعُ إلى ربك}؛ إلى توحيده وعبادته، {ولا تكونن من المشركين}، نهاه، تنفيراً لغيره من الشرك.
{ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخر}، قال ابن عباس رضي الله عنه: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أَهْلُ دينه. قال البيضاوي. وهذا وما قبله تهييج، وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم، {لا إله إلا هو}: استئناف، مقرر لِمَا قبله، {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجْهَهُ} أي: ذاته، فالوجه يُعَبِّرُ به عن الذات، أي: لكل شيء فانٍ مستهلك معدوم، إلا ذاته المقدسة، فإنها موجودة باقية.
وقال أبو العالية: إلا ما أريد به وجه الله، مِنْ عِلْمٍ وعمل، فإنه لا يفنى. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله تعالى منها، فيميز، ثم يؤمر بسائرها فيُلقى في النار. اهـ. وقال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش.
{له الحُكْمُ}؛ القضاء النافذ في خلقه، {وإليه تُرجعون}؛ للجزاء والفصل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أهل الاشتياق يُرَوِّحُونَ أرواحهم بهذه الآية، فيقولون لها: إن الذي فرض عليك القرآن، أن تعمل به في الدنيا لرادك إلى معاد جسماني روحاني، فتتصل نضرتك ونظرتك إلى وجه الحبيب، من غير عذول ولا رقيب، على سبيل الاتصال، من غير تكدر ولا انفصال، فإن وقع الإنكار على أهل الخصوصية؛ فيقولون: {ربي أعلم} الآية.. وما كنت ترجو أن تُلْقَى إليك الخصوصية إلا رحمة من ربك، فلا تكونن ظهيراً للكافرين المنكرين لها، معيناً لهم على إذاية من انتسب إليها، ولا يصدنك عن معرفة آيات الله الدالة عليه، بعد إذ أُنزلت إليك، أي: لا يمنعك الناس عن صحبة أولياء الله الدالين عليه، وادع إلى ربك، أي: إلى معرفة ذاته ووحدانيته، ولا تكونن من المشركين بشهود شيء من السِّوى، فإن كل شيء هالك، أي: معدم في الماضي والحال والاستقبال، إلا وجهه: إلا ذاته، فلا موجود معها، وفي ذلك يقول الشاعر:
الله قُلْ وذَرِ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى ** إِنْ كُنْتَ مُرْتَاداً بُلُوغَ كَمَال

فَالْكُلُّ دون اللهِ إِن حَقَّقْتَهُ ** عَدََمٌ عَلَى التَّفْصِيل وَالإجْمَالِ

وَاعلَمْ بأنَّكَ والعَوالِمَ كُلَّها ** لَوْلاَهْ فِي مَحْوٍ وَفِي اضْمِحْلاَلِ

مَنْ لاَ وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ ** فَوُجُودُهُ لولاه عَيْنُ مُحَالِ

فَالْعَارِفُون فَنَوْا وَلَمْ يَشْهَدُوا ** شَيْئاً سِوَى المُتَكَبِّرِ الْمُتَعَالِ

وَرَأَوْا سِوَاهُ عَلَى الحَقِيقَةِ هَالِكاً ** فِي الْحَاِلِ وَالْمَاضِي وَالاسْتِقْبَال

وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وَصَلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسَلَّمَ.

.سورة العنكبوت:

.تفسير الآيات (1- 3):

{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}
قلت: الحسبان: قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم: هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول: حَسِبْتُ زيداً وظننت الفرس بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله: {وهم لا يفتنون} أي: أحسبو تركهم غير مفتونين لأن يقولوا: آمنا.
يقول الحق جل جلاله: {الم}: الألف: لوحدة أسرار الجبروت، واللام: لفيضان أنوار الملكوت، والميم: لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره؛ ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله: {أحَسِبَ الناسُ} أي: أظن الناس {أن يُتركوا} غير- مفتونين ومختَبَرِين، {أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون}؛ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه؛ ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف؛ من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق؛ ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان على خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب، وما ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده؛ اختباراً لهم.
قال تعالى: {ولقد فتنَّا الذين مِنْ قبلهم} بأنواع المحن؛ فمنهم من كان يُوضع المناشر على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه. {فليعْلَمَنَّ اللهُ} بذلك الامتحان {الذين صَدَقُوا} في الإيمان بالثبات، {وليعلمنَّ الكاذبين} بالرجوع عنه. ومعنى علمه تعالى به، أي: علم ظهور وتمييز. والمعنى: ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء: يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين. اهـ.
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه: أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك؛ وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه.
والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث: «أشدُّ الناسِ بلاءً: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً اشتد بلاؤُهُ وإن كان في دينِه رقَّةٌ ابتلى على قَدرِ دينِه فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا: نبي أو صفي» وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناس بلاءً: الأنبياءُ، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» من الجامع. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (4- 7):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}
يقول الحق جل جلاله: {أَمْ حَسِبَ الذين يعملون السيئات} أي: الشرك والمعاصي وإذاية المسلمين، {أن يسبقونا} أي: يفوتونا، بل يلحقهم الجزاء لا محالة. و{أم}: منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: أن هذا الحسبان أَبْطَلُ من الحسبان الأول، لأن ذلك يظن أنه لا يُمْتَحَنُ لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يُجَازَى بمساوئه، وشبهته أضعف، ولذلك عقّبه بقوله: {ساءَ ما يحكمون}، أي: بئس ما يحكمون به حكمهم في صفات الله أنه مسبوق، وهو القادر على كل شيء، فالمخصوص محذوف.
ثم ذكر الحامل على الصبر عند الإمتحان، وهو رجاء لقاء الحبيب، فقال: {من كان يرجو لقاء الله} أي: يأمل ثوابه، أو يخاف حسابه، أو ينتظر رؤيته، {فَإِنَّ أَجَلَ الله} المضروب للغاية {لآتٍ} لا محالة. وهو تبشير بأن اللقاء حاصل؛ لأنه لأجل آت، وكل آت قريب. وكل غاية لها انقضاء، فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله. {وهو السميعُ} لما يقوله عباده، {العليمُ} بما يفعلونه، فلا يفوته شيء.
{ومن جاهَدَ} نفسه، بالصبر على مشاق الطاعات، ورفض الشهوات، وإذاية المخلوقات، وَحَبَسَ النفس على مراقبة الحق في الأنفاس واللحظات، {فإِنما يُجاهدُ لنفسه}؛ لأن منفعة ذلك لها، {إن لله لغنيٌ عن العالمين} وعن طاعاتهم ومجاهدتهم. وإنما أمر ونهي؛ رحمة لهم، ومراعاة لصلاحهم.
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنَّ عنهم سيئاتهم} أي: الشرك والمعاصي؛ بالإيمان والتوبة، {ولنجزينهم} مع غنانا عنهم، {أحسنَ الذين كانوا يعملون} أي: أحسن جزاء أعمالهم؛ بالفضل والكرم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أم حسب الذين يُنكرون على أوليائي، المنتسبين إليّ، أن يسبقونا؟ بل لابد أن نعاقبهم في الدنيا والآخرة، إما في الظاهر؛ بمصيبة تنزل بهم، أو في الباطن، وهو أقبح، كقساوة في قلوبهم، أو: كسل في بدنهم، أو: شك في يقينهم، أو: بُعد من ربهم، فإن من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. ثم بشّر المتوجهين الذين يؤذَون في جانبه، بأن لقاءه حاصل لهم إن صبروا، وهو الوصول إلى حضرته، والتنعم بقربه ومشاهدته، جزاء على صبرهم ومجاهدتهم، وهو الغَنِي بالإطلاق.